فصل: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: وَهُوَ النِّيَّةُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الرُّكْنُ الثَّانِي: وَهُوَ الْإِمْسَاكُ:

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الْإِمْسَاكُ زَمَانَ الصَّوْمِ عَنِ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْجِمَاعِ لِقَوْلِهِ: تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَمِنْهَا مَنْطُوقٌ بِهَا: أَمَّا الْمَسْكُوتُ عَنْهَا:
إِحْدَاهَا: فِيمَا يَرِدُ الْجَوْفَ مِمَّا لَيْسَ بِمُغَذٍّ، وَفِيمَا يَرِدُ الْجَوْفَ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلِ الْحُقْنَةِ، وَفِيمَا يَرِدُ بَاطِنَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَرِدُ الْجَوْفَ مِثْلُ أَنْ يَرِدَ الدِّمَاغَ وَلَا يَرِدَ الْمَعِدَةَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ هُوَ: قِيَاسُ الْمُغَذِّي عَلَى غَيْرِ الْمُغَذِّي، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْمُغَذِّي. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّوْمِ مَعْنًى مَعْقُولٌ لَمْ يُلْحَقِ الْمُغَذِّيَ بِغَيْرِ الْمُغَذِّي، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِمْسَاكُ فَقَطْ عَمَّا يَرِدُ الْجَوْفَ سَوَّى بَيْنَ الْمُغَذِّي وَغَيْرِ الْمُغَذِّي. وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَنْ مَا يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ مِنْ أَيِّ الْمَنَافِذِ وَصَلَ، مُغَذِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُغَذٍّ.
وَأَمَّا مَا عَدَا الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ فَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ قَبَّلَ فَأَمْنَى فَقَدْ أَفْطَرَ وَإِنْ أَمْذَى فَلَمْ يُفْطِرْ إِلَّا مَالِكٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهَا لِلشَّابِّ وَأَجَازَهَا لِلشَّيْخِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَمَنْ رَخَّصَ فِيهَا فَلِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ: «أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ». وَمَنْ كَرِهَهَا فَلِمَا يَدْعُوَا إِلَيْهِ مِنَ الْوِقَاعِ. وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: الْقُبْلَةُ تُفْطِرُ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ: أَفْطَرَا جَمِيعًا». خَرَّجَ هَذَا الْأَثَرَ الطَّحَاوِيُّ وَلَكِنْ ضَعَّفَهُ.
وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ هَذِهِ مِنْ قِبَلِ الْغَلَبَةِ وَمِنْ قِبَلِ النِّسْيَانِ: فَالْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي الْمُفْطِرَاتِ وَأَحْكَامِهَا.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِمَّا هُوَ مَنْطُوقٌ بِهِ: فَالْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ. أَمَّا الْحِجَامَةُ للصائم فَإِنَّ فِيهَا ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: قَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهَا تُفْطِرُ وَأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْهَا وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لِلصَّائِمِ وَلَيْسَتْ تُفْطِرُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ. وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ وَلَا مُفْطِرَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ وَمِنْ طَرِيقِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ». وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ هَذَا كَانَ يُصَحِّحُهُ أَحْمَدُ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ». وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا صَحِيحٌ. فَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَذْهَبُ التَّرْجِيحِ.
وَالثَّانِي: مَذْهَبُ الْجَمْعِ.
وَالثَّالِثُ: مَذْهَبُ الْإِسْقَاطِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ.
فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ قَالَ بِحَدِيثِ ثَوْبَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُوجِبٌ حُكْمًا، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَافِعُهُ، وَالْمُوجِبُ مُرَجَّحٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الرَّافِعِ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ بِطَرِيقٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ لَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِطَرِيقٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِرَفْعِهِ، وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ قَدْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَذَلِكَ شَكٌّ، وَالشَّكُّ لَا يُوجِبُ عَمَلًا وَلَا يَرْفَعُ الْعِلْمَ الْمُوجِبَ لِلْعَمَلِ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ لَا يَرَى الشَّكَّ مُؤَثِّرًا فِي الْعِلْمِ. وَمَنْ رَامَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا حَمَلَ حَدِيثَ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ وَحَدِيثَ الِاحْتِجَامِ عَلَى الْحَظْرِ. وَمَنْ أَسْقَطَهُمَا لِلتَّعَارُضِ قَالَ بِإِبَاحَةِ الِاحْتِجَامِ لِلصَّائِمِ.
وَأَمَّا الْقَيْءُ فى الصوم: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ بِمُفْطِرٍ، إِلَّا رَبِيعَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ مُفْطِرٌ، وَجُمْهُورُهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مَنِ اسْتَقَاءَ فَقَاءَ فَإِنَّهُ مُفْطِرٌ إِلَّا طَاوُسًا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَاخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي تَصْحِيحِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ» قَالَ مَعْدَانُ: فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَنِي «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ»، قَالَ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضَوْءَهُ. وَحَدِيثُ ثَوْبَانَ هَذَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَالْآخَرُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَإِنِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ». وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
فَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ الْأَثَرَانِ كِلَاهُمَا قَالَ: لَيْسَ فِيهِ فِطْرٌ أَصْلًا. وَمَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَرَجَّحَهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْجَبَ الْفِطْرَ مِنَ الْقَيْءِ بِإِطْلَاقٍ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَسْتَقِيءَ أَوْ لَا يَسْتَقِيءَ. وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَقَالَ حَدِيثُ ثَوْبَانَ مُجْمَلٌ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُفَسَّرٌ، وَالْوَاجِبُ حَمْلُ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُفَسَّرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَيْءِ وَالِاسْتِقَاءَةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

.الرُّكْنُ الثَّالِثُ: وَهُوَ النِّيَّةُ:

وَالنَّظَرُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوَاضِعَ:
مِنْهَا: هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ؟
وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا فَمَا الَّذِي يُجْزِئُ مِنْ تَعْيِينِهَا؟
وَهَلْ يَجِبُ تَجْدِيدُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ أَمْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ النِّيَّةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؟
وَإِذَا أَوْقَعَهَا الْمُكَلَّفُ فَأَيُّ وَقْتٍ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ صَحَّ الصَّوْمُ؟
وَإِذَا لَمْ تَقَعْ فِيهِ بَطَلَ الصَّوْمُ؟
وَهَلْ رَفْضُ النِّيَّةِ يُوجِبُ الْفِطْرَ وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ؟
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَطَالِبِ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا. أَمَّا كَوْنُ النِّيَّةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصِّيَامِ: فَإِنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَشَذَّ زُفَرُ فَقَالَ: لَا يَحْتَاجُ رَمَضَانُ إِلَى النِّيَّةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي يُدْرِكُهُ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَيُرِيدُ الصَّوْمَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: الِاحْتِمَالُ الْمُتَطَرِّقُ إِلَى الصَّوْمِ؛ هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى أَوْ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى؟
فَمَنْ رَأَى أَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى أَوْجَبَ النِّيَّةَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى قَالَ: قَدْ حَصَلَ الْمَعْنَى إِذَا صَامَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَ زُفَرَ رَمَضَانَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ ضَعْفٌ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ أَيَّامَ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِيهَا الْفِطْرُ، أَيْ أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ يَقَعُ فِيهَا يَنْقَلِبُ صَوْمًا شَرْعِيًّا، وَأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَخُصُّ هَذِهِ الْأَيَّامَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ الْمُجْزِيَةِ فِي ذَلِكَ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْيِينِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَا يَكْفِيهِ اعْتِقَادُ الصَّوْمِ مُطْلَقًا وَلَا اعْتِقَادُ صَوْمٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ اعْتَقَدَ مُطْلَقَ الصَّوْمِ أَجْزَأَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ نَوَى فِيهِ صِيَامَ غَيْرِ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ، وَانْقَلَبَ إِلَى صِيَامِ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا، فَإِنَّهُ إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ عِنْدَهُ فِي رَمَضَانَ صِيَامَ غَيْرِ رَمَضَانَ كَانَ مَا نَوَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ وُجُوبًا مُعَيَّنًا، وَلَمْ يُفَرِّقْ صَاحِبَاهُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْحَضِرِ، وَقَالَا: كُلُّ صَوْمٍ نُوِيَ فِي رَمَضَانَ انْقَلَبَ إِلَى رَمَضَانَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْكَافِي فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ هُوَ تَعْيِينُ جِنْسِ الْعِبَادَةِ أَوْ تَعْيِينُ شَخْصِهَا؟
وَذَلِكَ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الشَّرْعِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ يَكْفِي مِنْهَا اعْتِقَادُ رَفْعِ الْحَدَثِ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ الَّتِي الْوُضُوءُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَلَيْسَ يَخْتَصُّ عِبَادَةً عِبَادَةً بِوُضُوءٍ وُضُوءٍ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ شَخْصٍ الْعِبَادَةَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الصَّلَاةِ إِنْ عَصْرًا فَعَصْرًا، وَإِنْ ظُهْرًا فَظُهْرًا، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، فَتَرَدَّدَ الصَّوْمُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، فَمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْجِنْسِ الْوَاحِدِ قَالَ: يَكْفِي فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُ الصَّوْمِ فَقَطْ، وَمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْجِنْسِ الثَّانِي اشْتَرَطَ تَعْيِينَ الصَّوْمِ.
وَاخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي إِذَا نَوَى فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ صَوْمًا آخَرَ هَلْ يَنْقَلِبُ أَوْ لَا يَنْقَلِبُ؟
سَبَبُهُ أَيْضًا: أَنَّ مِنَ الْعِبَادَةِ عِنْدَهُمْ مَنْ يَنْقَلِبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تُوقَعُ فِيهِ مُخْتَصٌّ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي تَنْقَلِبُ إِلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ يَنْقَلِبُ: أَمَّا الَّتِي لَا تَنْقَلِبُ فَأَكْثَرُهَا، وَأَمَّا الَّتِي تَنْقَلِبُ بِاتِّفَاقٍ فَالْحَجُّ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا ابْتَدَأَ الْحَجَّ تَطَوُّعًا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ انْقَلَبَ التَّطَوُّعُ إِلَى فَرْضٍ، وَلَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا. فَمَنْ شَبَّهَ الصَّوْمَ بِالْحَجِّ قَالَ يَنْقَلِبُ وَمَنْ شَبَّهَهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ قَالَ لَا يَنْقَلِبُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ للصيام: فَإِنَّ مَالِكًا رَأَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الصِّيَامُ إِلَّا بِنْيَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَجْرِ فِي النَّافِلَةِ وَلَا تُجْزِئُ فِي الْفُرُوضِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِئُ النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَجْرِ فِي الصِّيَامِ الْمُتَعَلِّقِ وُجُوبُهُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِثْلِ رَمَضَانَ وَنَذْرِ أَيَّامٍ مَحْدُودَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، أَمَّا الْآثَارُ الْمُتَعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ: فَأَحَدُهَا: مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ». وَرَوَاهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: حَدِيثُ حَفْصَةَ فِي إِسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ.
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟
قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ»
. وَلِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْيَوْمُ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا صِيَامُهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ». فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَخَذَ بِحَدِيثِ حَفْصَةَ، وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ فَرَّقَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ - أَعْنِي: حَمَلَ حَدِيثَ حَفْصَةَ عَلَى الْفَرْضِ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ عَلَى النَّفْلِ - وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ وَالْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَيَّنَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ يَقُومُ مَقَامَ النِّيَّةِ فِي التَّعْيِينِ، الَّذِي فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ، فَأَوْجَبَ أَنَّ التَّعْيِينَ بِالنِّيَّةِ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَتِ الطَّهَارَةُ مِنَ الْجَنَابَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَيِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا قَالَتَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ» وَمِنَ الْحُجَّةِ لَهُمَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ بِالنَّهَارِ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ. وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٍ أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَفْسَدَ صَوْمَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ أَفْطَرَ». وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنَا قُلْتُهُ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْحَائِضَ إِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَخَّرَتِ الْغُسْلَ أَنَّ يَوْمَهَا يَوْمُ فِطْرٍ، وَأَقَاوِيلُ هَؤُلَاءِ شَاذَّةٌ وَمَرْدُودَةٌ بِالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ الثَّابِتَةِ.

.الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْفِطْرِ وَأَحْكَامِهِ:

وَالْمُفْطِرُونَ فِي الشَّرْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
صِنْفٌ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ وَالصَّوْمُ بِإِجْمَاعٍ. وَصِنْفٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَصِنْفٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ: أَمَّا الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْأَمْرَانِ: فَالْمَرِيضُ بِاتِّفَاقٍ، وَالْمُسَافِرُ بِاخْتِلَافٍ، وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ كُلُّهُ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَالنَّظَرُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا: هَلْ إِنْ صَامَ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ أَمْ لَيْسَ يُجْزِيهِ؟
وَهَلْ إِنْ كَانَ يُجْزِي الْمُسَافِرَ صَوْمُهُ الْأَفْضَلُ لَهُ الصَّوْمُ أَوِ الْفِطْرُ أَوْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا؟
وَهَلِ الْفِطْرُ الْجَائِزُ لَهُ هُوَ فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ أَمْ فِي كُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ؟
وَمَتَّى يُفْطِرُ الْمُسَافِرُ؟
وَمَتَى يُمْسِكُ؟
وَهَلْ إِذَا مَرَّ بَعْضُ الشَّهْرِ لَهُ أَنْ يُنْشِئَ السَّفَرَ أَمْ لَا؟
ثُمَّ إِذَا أَفْطَرَ مَا حُكْمُهُ؟
وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَالنَّظَرُ فِيهِ أَيْضًا فِي تَحْدِيدِ الْمَرَضِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْفِطْرُ وَفِي حُكْمِ الْفِطْرِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [إِنْ صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ هَلْ يُجْزِيهِ صَوْمُهُ؟

]:
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ إِنْ صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ هَلْ يُجْزِيهِ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِهِ أَمْ لَا؟
فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ صَامَ وَقَعَ صِيَامُهُ وَأَجْزَأَهُ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ وَأَنَّ فَرْضَهُ هُوَ أَيَّامٌ أُخَرُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ قَوْلِهِ: تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بَيْنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ هُنَالِكَ مَحْذُوفٌ أَصْلًا، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَهَذَا الْحَذْفُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ صِنَاعَةِ الْكَلَامِ بِلَحْنِ الْخِطَابِ. فَمَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى الْمَجَازِ قَالَ: إِنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَمَنْ قَدَّرَ (فَأَفْطَرَ) قَالَ: إِنَّمَا فَرْضُهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ إِذَا أَفْطَرَ. وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ يُرَجِّحُ تَأْوِيلَهُ بِالْآثَارِ الشَّاهِدَةِ لِكِلَا الْمَفْهُومَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ أَنْ يُحْمَلَ الشَّيْءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ. أَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَحْتَجُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ». وَبِمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَافِرُونَ فَيَصُومُ بَعْضُهُمْ وَيُفْطِرُ بَعْضُهُمْ. فَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَحْتَجُّونَ لِمَذْهَبِهِمْ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَاَمَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ». وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الصَّوْمِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا صَامَ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [هَلِ الْأَفْضَلُ لِلْمُسَافِرِ الصَّوْمُ أَوِ الْفِطْرُ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ هَلِ الصَّوْمُ أَفْضَلُ أَوِ الْفِطْرُ للمسافر؟
إِذَا قُلْنَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفِطَرِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَبَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَبَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ. وَبَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْمَفْهُومِ مِنْ ذَلِكَ لِظَاهِرِ بَعْضِ الْمَنْقُولِ، وَمُعَارَضَةُ الْمَنْقُولِ بَعْضِهِ لِبَعْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَ مِنْ إِجَازَةِ الْفِطْرِ لِلصَّائِمِ إِنَّمَا هُوَ الرُّخْصَةُ لَهُ لِمَكَانِ رَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَنْهُ، وَمَا كَانَ رُخْصَةً فَالْأَفْضَلُ تَرْكُ الرُّخْصَةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ فِيَّ قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ جُنَاحٌ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ أَنْ تَصُومَ فِي السَّفَرِ»، وَمِنْ أَنَّ آخِرَ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ الْفِطْرُ، فَيُوهِمُ أَنَّ الْفِطْرَ أَفْضَلُ، لَكِنَّ الْفِطْرَ لَمَّا كَانَ لَيْسَ حُكْمًا وَإِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمُبَاحِ عَسُرَ عَلَى الْجُمْهُورِ أَنْ يَضَعُوا الْمُبَاحَ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ.
وَأَمَّا مِنْ خُيِّرَ فِي ذَلِكَ فَلِمَكَانِ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [مَا هُوَ السَّفَرُ أَوِ الْمَرَضُ الَّذِي يُبِيحُ الْفِطْرَ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ هَلِ الْفِطْرُ الْجَائِزُ لِلْمُسَافِرِ هُوَ فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ، أَوْ فِي سَفَرٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ؟
فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ فِي كُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ سَفَرٍ وَهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُسَافِرٍ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ إِجَازَةِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ فَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَلَمَّا كَانَتْ لَا تُوجَدُ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الَّذِي فِيهِ الْمَشَقَّةُ، وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ كَأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى الْحَدِّ فِي ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْحَدِّ فِي تَقْصِيرِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْمَرَضُ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْفِطْرُ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ الْمَرَضُ الَّذِي يَلْحَقُ مِنَ الصَّوْمِ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَضَرُورَةٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ الْمَرَضُ الْغَالِبُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَرِيضِ أَفْطَرَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هُوَ بِعَيْنِهِ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي حَدِّ السَّفَرِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [مَتَى يُفْطِرُ الْمُسَافِرُ؟

وَمَتَى يُمْسِكُ؟
]:
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ مَتَى يُفْطِرُ الْمُسَافِرُ وَمَتَى يُمْسِكُ؟
فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُفْطِرُ يَوْمَهُ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ مُسَافِرًا، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَحْمَدُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ أَوَّلَ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ صَائِمًا. وَبَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ تَشْدِيدًا مِنْ بَعْضٍ، وَكُلُّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا عَلَى مَنْ دَخَلَ مُفْطِرًا كَفَّارَةً. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ دَخَلَ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّهَارِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَمَادَى عَلَى فِطْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَكُفُّ عَنِ الْأَكْلِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ عِنْدَمَا تَطْهُرُ تَكُفُّ عَنِ الْأَكْلِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ الْمُسَافِرُ هُوَ مُعَارَضَةُ الْأَثَرِ لِلنَّظَرِ. أَمَّا الْأَثَرُ: فَإِنَّهُ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ». وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ أَفْطَرَ بَعْدَ أَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ، وَأَمَّا النَّاسُ فَلَا يُشَكُّ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا بَعْدَ تَبْيِيتِهِمُ الصَّوْمَ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ وَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ». وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ لَمَّا تَجَاوَزَ الْبُيُوتَ دَعَا بِالسُّفْرَةِ، قَالَ جَعْفَرٌ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَؤُمُّ الْبُيُوتَ؟
فَقَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ جَعْفَرٌ: فَأَكَلَ.
وَأَمَّا النَّظَرُ: فَلَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ لَا يَجُوزُ لَهُ إِلَّا أَنْ يُبَيِّتَ الصَّوْمَ لَيْلَةَ سَفَرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ صَوْمَهُ وَقَدْ بَيَّتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي إِمْسَاكِ الدَّاخِلِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ عَنِ الْأَكْلِ أَوْ لَا إِمْسَاكِهِ: فَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي تَشْبِيهِ مَنْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ شَكٍّ أَفْطَرَ فِيهِ الثُّبُوتُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِهِ قَالَ يُمْسِكُ عَنِ الْأَكْلِ، وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهُ بِهِ قَالَ لَا يُمْسِكُ عَنِ الْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَكْلٌ لِمَوْضِعِ الْجَهْلِ، وَهَذَا أَكْلٌ لِسَبَبٍ مُبِيحٍ أَوْ مُوجِبٍ لِلْأَكْلِ. وَالْحَنَفِيَّةُ تَقُولُ: كِلَاهُمَا سَبَبَانِ مُوَجِبَانِ لِلْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ بَعْدَ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ]: [هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْشِئَ سَفَرًا فِي رَمَضَانَ ثُمَّ لَا يَصُومُ؟

]:
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: وَهِيَ هَلْ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُنْشِيءَ سَفَرًا ثُمَّ لَا يَصُومُ فِيهِ؟
فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَهُوَ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَسُوِيدُ بْنُ غَفَلَةَ وَابْنُ مِجْلَزٍ أَنَّهُ إِنْ سَافَرَ فِيهِ صَامَ وَلَمْ يُجِيزُوا لَهُ الْفِطْرَ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّ مِنْ شَهِدَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي شَهِدَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ بِاتِّفَاقٍ أَنَّ مَنْ شَهِدَهُ كُلَّهُ فَهُوَ يَصُومُهُ كُلَّهُ كَأَنَّ مَنْ شَهِدَ بَعْضَهُ فَهُوَ يَصُومُ بَعْضَهُ، وَيُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ الْجُمْهُورِ إِنْشَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمُسَافِرِ إِذَا أَفْطَرَ فَهُوَ الْقَضَاءُ بِاتِّفَاقٍ وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ لِقَوْلِهِ: تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَا عَدَا الْمَرِيضَ بِإِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ حكم قضاء صيامه، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَجْنُونِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ، فَقَوْمٌ قَالُوا: إِنَّهُ مُفْسِدٌ. وَقَوْمٌ قَالُوا: لَيْسَ بِمُفْسِدٍ،. وَقَوْمٌ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَقَوْمٌ قَالُوا: إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ مُضِيِّ أَكْثَرِ النَّهَارِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَضَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ ضَعْفٌ، فَإِنَّ الْإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ صِفَةٌ يَرْتَفِعُ بِهَا التَّكْلِيفُ وَبِخَاصَّةٍ الْجُنُونَ، إِذَا ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ لَمْ يُوصَفْ بِمُفْطِرٍ وَلَا صَائِمٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الصِّفَةِ الَّتِي تَرْفَعُ التَّكْلِيفَ إِنَّهَا مُبْطِلَةٌ لِلصَّوْمِ إِلَّا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَيِّتِ أَوْ فِيمَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعَمَلُ إِنَّهُ قَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ وَعَمَلُهُ.

.قَضَاءُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ:

وَيَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مَسَائِلُ:
مِنْهَا: هَلْ يَقْضِيَانِ مَا عَلَيْهِمَا مُتَتَابِعًا أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: مَاذَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَخَّرَا الْقَضَاءَ بِغَيْرِ عُذْرٍ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ؟
وَمِنْهَا: إِذَا مَاتَا وَلَمْ يَقْضِيَا هَلْ يَصُومُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا أَوْ لَا يَصُومُ؟

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [هَلْ يَقْضِي الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ الصَّوْمَ مُتَتَابِعًا؟

]:
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ مُتَتَابِعًا عَلَى صِفَةِ الْأَدَاءِ، وَبَعْضَهُمْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ خَيَّرَ وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ التَّتَابُعَ، وَالْجَمَاعَةُ عَلَى تَرْكِ إِيجَابِ التَّتَابُعِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَى صِفَةِ الْقَضَاءِ، أَصْلُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ. أَمَّا ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِيجَابَ الْعَدَدِ فَقَطْ لَا إِيجَابَ التَّتَابُعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (نَزَلَتْ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ}، فَسَقَطَ: مُتَتَابِعَاتٌ).

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ]:

وَأَمَّا إِذَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ حكمه: فَقَالَ قَوْمٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ صِيَامِ رَمَضَانَ الدَّاخِلِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ تُقَاسُ الْكَفَّارَاتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ أَمْ لَا؟
فَمَنْ لَمْ يُجِزِ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ: إِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ. وَمَنْ أَجَازَ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُسْتَهِينٌ بِحُرْمَةِ الصَّوْمِ، أَمَّا هَذَا فَبِتَرْكِ الْقَضَاءِ زَمَانَ الْقَضَاءِ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَبِالْأَكْلِ فِي يَوْمٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَكْلُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْقِيَاسُ مُسْتَنِدًا لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْقَضَاءِ زَمَنًا مَحْدُودًا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ، لِأَنَّ أَزْمِنَةَ الْأَدَاءِ هِيَ الْمَحْدُودَةُ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ شَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِذَا اتَّصَلَ مَرَضُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَقْضِ]:

وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ حكمه فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. وَقَوْمٌ قَالُوا يَصُومُ عَنْهُ وَلَيُّهُ. وَالَّذِينَ لَمْ يُوجِبُوا الصَّوْمَ قَالُوا: يُطْعِمُ عَنْهُ وَلَيُّهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا صِيَامَ وَلَا إِطْعَامَ إِلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصُومُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ النَّذْرِ وَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ، فَقَالُوا: يَصُومُ عَنْهُ وَلَيُّهُ فِي النَّذْرِ، وَلَا يَصُومُ فِي الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَهُ عَنْهُ وَلَيُّهُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسْولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟
فَقَالَ: لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟
قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ»
. فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْأُصُولَ تُعَارِضُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَتَوَضَّأُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَكَذَلِكَ لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ قَالَ: لَا صِيَامَ عَلَى الْوَلِيِّ. وَمَنْ أَخَذَ بِالنَّصِّ فِي ذَلِكَ قَالَ: بِإِيجَابِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ. وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالنَّصِّ فِي ذَلِكَ قَصَرَ الْوُجُوبَ عَلَى النَّذْرِ. وَمَنْ قَاسَ رَمَضَانَ عَلَيْهِ قَالَ: يَصُومُ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ فَمَصِيرًا إِلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الْآيَةَ.
وَمَنْ خَيَّرَ فِي ذَلِكَ فَجَمْعًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَثَرِ. فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مِنَ الصِّنْفِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُمُ الْفِطْرُ وَالصَّوْمُ.

.أَحْكَامُ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ:

وَأَمَّا بَاقِي هَذَا الصِّنْفِ وَهُوَ الْمُرْضِعُ وَالْحَامِلُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَإِنَّ فِيهِ مَسْأَلَتَيْنِ مَشْهُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا أَفْطَرَتَا حكمهما مَاذَا عَلَيْهِمَا؟
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ فَقَطْ وَلَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَيُطْعِمَانِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَامِلَ تَقْضِي وَلَا تُطْعِمُ، وَالْمُرْضِعُ تَقْضِي وَتُطْعِمُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ شَبَهِهِمَا بَيْنَ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَبَيْنَ الْمَرِيضِ، فَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالْمَرِيضِ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَقَطْ، وَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ قَالَ عَلَيْهِمَا الْإِطْعَامُ فَقَطْ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} الْآيَةَ.
وَأَمَّا مَنْ جَمَعَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَيْنِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَبَهًا فَقَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ الْمَرِيضِ، وَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ الَّذِينَ يُجْهِدُهُمُ الصِّيَامُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَهُمَا بِالْمُفْطِرِ الصَّحِيحِ لَكِنْ يَضْعُفُ هَذَا، فَإِنَّ الصَّحِيحَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَلْحَقَ الْحَامِلَ بِالْمَرِيضِ، وَأَبْقَى حُكْمَ الْمُرْضِعِ مَجْمُوعًا مِنْ حُكْمِ الْمَرِيضِ وَحُكْمِ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ، أَوْ شَبَّهَهَا بِالصَّحِيحِ، وَمَنْ أَفْرَدَ لَهُمَا أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِمَّنْ جَمَعَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْقَضَاءِ أَوْلَى مِمَّنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْإِطْعَامِ فَقَطْ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ. - فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ.
[ثَانِيهِمَا]: وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ اللَّذَانِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الصِّيَامِ حكمهما: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا، وَاخْتَلَفُوا فِي مَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَفْطَرَا، فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِمَا الْإِطْعَامُ. وَقَالَ قَوْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِمَا إِطْعَامٌ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحَبَّهُ. وَأَكْثَرُ مَنْ رَأَى الْإِطْعَامَ عَلَيْهِمَا يَقُولُ: مُدٌّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَقِيلَ إِنْ حَفَنَ حَفَنَاتٍ كَمَا كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ أَجْزَأَهُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا - أَعْنِي: قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} - فَمَنْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا وَرَدَتْ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ الْعُدُولِ قَالَ: الشَّيْخُ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ بِهَا عَمَلًا جَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الْمَرِيضِ الَّذِي يَتَمَادَى بِهِ الْمَرَضُ حَتَّى الْمَوْتَ. فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْفِطْرُ - أَعْنِي: أَحْكَامَهُمُ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي أَكْثَرُهَا مَنْطُوقٌ بِهِ أَوْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الصِّنْفِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ.

.أَحْكَامُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ:

وَأَمَّا النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الصِّنْفِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ: فَإِنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِجِمَاعٍ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِأَمْرٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ عَلَيْهِ - أَعْنِي: بِشُبْهَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ السَّهْوِ، أَوْ طَرِيقِ الْعَمْدِ، أَوْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ. أَمَّا مَنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ حكمه، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟
قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ بِهِ رَقَبَةً؟
قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟
قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟
قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، فَقَالَ: أَعْلَى أَفْقَرَ مِنِّي؟
فَمَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»
. وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:
مِنْهَا: هَلِ الْإِفْطَارُ مُتَعَمَّدًا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: إِذَا جَامَعَ سَاهِيًا مَاذَا عَلَيْهِ؟
وَمِنْهَا: مَاذَا عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُكْرَهَةً؟
وَمِنْهَا: هَلِ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِيهِ مُتَرَتِّبَةٌ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ؟
وَمِنْهَا: كَمِ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ إِذَا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ؟
وَمِنْهَا: هَلِ الْكَفَّارَةُ مُتَكَرِّرَةٌ بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: إِذَا لَزِمَهُ الْإِطْعَامُ وَكَانَ مُعْسِرًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِطْعَامُ إِذَا أَثْرَى أَمْ لَا؟
وَشَذَّ قَوْمٌ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْمُفْطِرِ عَمْدًا بِالْجِمَاعِ إِلَّا الْقَضَاءَ فَقَطْ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَزْمَةً فِي هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَزْمَةً لَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْإِعْتَاقَ أَوِ الْإِطْعَامَ أَنْ يَصُومَ، وَلَا بُدَّ إِذَا كَانَ صَحِيحًا عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ عَزْمَةً لَأَعْلَمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الصِّيَامُ أَنْ لَوْ كَانَ مَرِيضًا. وَكَذَلِكَ شَذَّ قَوْمٌ أَيْضًا فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْكَفَّارَةُ فَقَطْ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ الْوَاجِبُ بِالْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَفْطَرَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَيْسَ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، فَيَلْحَقُ فِي قَضَاءِ الْمُتَعَمِّدِ الْخِلَافُ الَّذِي لَحِقَ فِي قَضَاءِ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا، إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ شَاذٌّ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فَهُوَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي عَدَّدْنَاهَا قَبْلُ.